يا طالب العلم !!
كيف تعرف أنك قد حصَّلت العلم ؟!
هذا السؤال ينبغي أن يسأله كل طالب علم لنفسه، ومع أهميته لا نكاد نجد أحدا يهتم به، وإذا رأينا من يهتم به وجدناه يسلك في سبيل جوابه مسالك خاطئة، أو على الأقل مسالك غير موثوقة.
والإنسان مفطور على ضرب الأمثال، والمقايسة بين المتشابهات، والتفريق بين المفترقات، والانطلاق من المحسوس إلى المعقول، ومن الجزئي إلى الكلي، ولذلك كثرت هذه الطرائق في القرآن الكريم هداية للناس.
تعالَ للنظر إلى ما هو موجود في العالم لنعرف كيف يحكم الناس على فلان أو فلان بأنه قد (تأهَّل) أو لم يتأهل في أي شيء كان.
إذا تقدمتَ مثلا إلى وظيفة من الوظائف فغالبا يكون هناك اختبار لمعرفة ما عندك من خبرة وأهلية ومعرفة بهذه الوظيفة، ومن المؤكد أن الذي يختبرك في هذه الوظيفة لن يسألك عن رأيك الشخصي، وإنما سيسألك عما هو معروف عند المتخصصين في هذه الوظيفة، فإذا رآك تقول كلاما غريبا عن أهل الفن فسيحكم تلقائيا بأنك لست أهلا لهذه الوظيفة.
وعندما يدخل الطالب امتحانا في مادة من المواد، فإن التصحيح يكون بناء على ما هو معروف في هذه المادة، وليس بناء على ما يراه كل إنسان بهواه.
حتى الصناعات والحرف كالنجارة والحدادة والسباكة ونحوها، لا يحكم للشخص فيها بالأهلية إلا إن كان متقنا لما عليه أهل هذه الصناعة، فإذا جاء السباك فجعل فتحة الحنفية لأعلى مثلا ( !! ) زعما منه أن هذا هو الصواب، وأن جميع السباكين على ظهر الأرض أخطئوا، فلا شك أن هذا لا يقبل منه، بل يحكم عليه الناس تلقائيا وبغير تفكير ولا مناقشة بأنه مجنون، أو على الأقل أخطأ وجه الصواب.
وتعال مثلا إلى العلوم الشرعية: كيف نحكم على فلان أو فلان بأنه قد تأهل في علم الفقه مثلا أو في علم الحديث أو في علم التفسير أو في علم الأصول؟
لا شك أننا سنختبره في كتب الفقه الموجودة بيننا
ونسأله عما هو موجود في كتب الحديث المعروفة
ونكاشفه عن التفاسير التي بين أيدينا، وهكذا.
فإذا وجدناه يدعي أنه فقيه من الدرجة الأولى، ويزعم مع ذلك أنه لا يجوز النظر مثلا في كتب الفقه، ويزعم أنه يجب الاكتفاء بالقرآن فقط، أو وجدناه يزعم مثلا أن ( مفيش حاجة اسمها حيض، ولا فيه حاجة اسمها نواقض الوضوء ) فهذا الإنسان يحكم عليه من يختبره تلقائيا وبغير مناقشة أصلا بأنه (بطيخ)، وأنه أجهل من الدابة بعلم الفقه، وأغلب الظن أن الناس ستحكم عليه بالجنون، ولكن تنزلا فقط قد يحكمون عليه بأنه جانب الصواب.
والآن بعد أن استعرضنا بعض طرائق الناس في معرفة الأهلية، نأتي إلى السؤال المهم:
كيف تعرف أنت يا طالب العلم عن نفسك أنك قد تأهلت ؟!
وللجواب عن السؤال نرجع إلى عالمنا المعروف مرة أخرى، ولكن في مثال بعينه، فنقول:
من المعروف في علوم البرمجة ما يسمى ( اختبار البرنامج الحاسوبي ) لمعرفة صلاحيته للعمل، ويكون هذا الاختبار بإعطاء نتائج معروفة سابقا للبرنامج، ثم ملاحظة نتائج البرنامج، فإن وافقت النتائج المعروفة كان هذا دليلا على أن البرنامج صالح للعمل، وكلما زاد التوافق بين نتائج البرنامج والنتائج المعروفة سابقا كان هذا دليلا على قوة الثقة في البرنامج والاطمئنان إليه ( أي أهليته للعمل ).
وإذا وُجد ناتج واحد فقط لا يتوافق مع النتائج المعروفة، فهذا دليل على وجود خلل في البرنامج يحتاج إلى مراجعة، ولكن قد يكون الخلل يسيرا لا يؤثر إلا نادرا.
وكلما كثرت النتائج المخالفة كان هذا دليلا على أن الخلل في البرنامج أكبر.
فإذا أردت يا طالب العلم أن تعرف أنك قد حصلت العلم فطبق هذه الطريقة على نفسك:
- انظر إلى المسائل المتفق عليها بين أهل العلم، ثم انظر إلى نفسك وحاول الاستنباط والنظر والاجتهاد في هذه المسألة بعينها، فإذا وصلت إلى النتيجة التي وصل إليها أهل العلم، فهذا دليل على أنك قد صرت مؤهلا في هذه المسألة، وإذا وجدت نفسك تختار قولا غير ما وصلوا إليه فهذا دليل على وجود خلل منهجي عندك.
- فإذا كررت ذلك مرارا فوجدت موافقاتك لأهل العلم هي الأكثر فهذا دليل على أن الأهلية عندك هي الأكثر، وإذا كانت مخالفاتك أكثر، فهذا دليل على أن الخلل المنهجي عندك أكثر.
ومن النظر السابق يتضح لنا جليا أن الإجماع حجة ملزمة لا يسوغ الخروج عنها.
لماذا؟
لأن الإجماع أصلا هو الذي يبين مَن منا قد وصل إلى الأهلية، ومن منا لم يصل إلى الأهلية، فإذا كانت الأهلية نفسها معتمدة على هذا الإجماع، فكيف تكون الأهلية سببا في نقض الإجماع؟
كيف يزعم من يخالف الإجماع أنه مؤهل لهذه المخالفة، إذا كان تأهيله نفسه لا يتحقق إلا بهذا الإجماع؟
فالحاصل أن مخالف الإجماع إما أن يكون الخلل عنده في الأهلية عموما -وهذا هو الأغلب- وإما أن يكون الخلل عنده في الأهلية لهذه المسألة بخصوصها، وهذا قليل.